لمى محمود
عدد المساهمات : 4 تاريخ التسجيل : 17/03/2009
| موضوع: ما وراء السور المتهاتك الثلاثاء مارس 17, 2009 10:56 am | |
| "ما وراء السور المتهالك"
هي حكايةٌ أراد غازلها أن يغزل في خيوطها الألم و الحزن،ليحصد النور ويزرع الظلام بين ثناياها المنيرة، لتجعلنا في ظلام وسكون مطبق لا حدود له.
نعم ،لقد أراد غازلها ذلك ،أراد لذلك الثوب أن يضع فيه ألوان الظلم واشكاله ، ونتج من الغزل طفلة ٌ بكت على أرصفة الرحيل،لأن هناك قطاراً أخذ عائلتها إلــى طريق الخلود،طفلة ٌ من أوراق شجر فلسطين عمّها الذبول الخريفي،من حيث ملاحم الذاكرة ، تسطر لذاتها أروع الفصول،فصولها ، آلامٍ وحقب،بنت لها الآلامُ طريقاً لعالمٍ هو مقبرة ٌ لللآمال ، طريقاً غزلته خيوطٌ من المجازر والمرارة،تداخلته خيـــوط ٌ من شمس صباح ، ووضعت لمساتها عليه بكل رقه،مخلفة ً لتلك الطفلة ذكرياتٍ جميلــــــة ، خطتها في قاموس ذاكرتها بأجمل الخطوط.
تحت قبة السماء الزرقاء،التى ملأتها العصافير،وعلى بساط الربيع الأخضر "ما أجـــمـــل الربيع!"قالـــت لينا بمرحٍ طفولي وهي تـــلعب في حديقة بيتهم فــــي يافا،برفقةأختها الصغيرة ريم . فجأة جاءهم صوت أمهم-رانيا-من البيت "هيا يا بنات: حان وقت الغداء ! وما هي إلى دقائق حتى كانت الطفلتان على الطاولة ،تنتظران بلهفة ما ستحضره لهما امهما الحنونة . وبعد أنتهائهما من الطعام أستأذنتا من أمهما أن تذهبا عند ديانا،التي تقطن بالبيت المجاور لهم،عيناها عسليتان أخاذتان وشعرها أسود كالليل،فأذنــت لهما أمهما بشرط أن تعودا قبل المــغيب،فهرعتا كالسهم المنطلق وفـي وجهيهما كل معاني الطفولة و البراءة . لعب ثلاثتهم معاً،وقطفن الأزهار وجعلن منها أطواقاً وأكاليل جميلة،بديّن كالفراشات يلعبن في رياض الربيع علـــى البســاط الأخضر الذي أزهىّ بأزهـــار السوسن وشقائق النعمان،وتسلقن شجرة البرتقال التى ملأها النوار،لــعبن دور جنيات الربيع التى ما هي إلى من نسج الأساطير،وتمرجحن بأراجيح خيوطــها مجدولة ٌ بأشعةِ الشمس. وعندما قاربت الشمس على المغيب "إلى اللقاء يا ديـــانا سنلتقي غداً في المدرسة"قالت لينا مودعة،رجعن إلى البيت،سمعت لينا صوتاً آتٍ من بعيد فنظرت إلى السماء،فرأت غراباً أسوداً يسبح فيها،أرتعش جسمها النحيل بدون سابق إنذار وكأن الغراب يحمل الشؤم. نعم،لقد كان الغراب يحمل الشؤم،فلم يكن للينا لقاءٌ آخر مع ديانا،ولا ذهابٌ آخر إلى مدرستها. وفي الليل ذهبت لينا وريم ليخلدا إلى النوم،ساد الصمت تلك الليلة وغلفها،ولكن هذا الغلاف تلاشى على صوت المدافع،والبكاء والعويل وقنابل تتفرقع هنا وهناك. أستيقظ والدا لينا مذعورين،وقاما بإيقاظ الطفلتــين،وخرج أربعتهم حتى يــنجوا بأنفسهم من الهلاك الوشيك. قال الاب: "أسرعوا بالدخول الى الملجأً "دخلت الطفلتان أولاً بناءً على رغبة والدهما, ثم جاء صوت أمهما تقول "اسر..." وقبل أن تكمل كلمتها توقف الـصوت "أ..بي ..أ..مي"قالت لينا والدموع في عينيها بصوت يملؤه الرعب ،لم يأتها جواب من الخارج ،صرخت بأعلى صوتها "أمي أبي"بكت بحرقة، وعندما رات ريم أختها تبكي شاركتها البكاء،بكت الطفلتان بحرقة الى حين أن أرهقهما التعب ونامتا،وفـي الصباح،استيقظت الطفلتان، واسترجعتا ذكرى الفاجعة الأليمة وصورها التـــي تفتت الأكباد، التي رأيها عندما كانتا في طريقهما وخروجهما الى الملجأ ،والديهما جثث هامدة،وحولها جثث مترامية ، وجثة ديانا المرنحة باٍلدماء. وقفــت الطفلــتان مشدوهتان ...... ليستوعبا أن المــاضي الجميــل قـــد تلاشى،وأصبح مجرد ذكرياتٍ و صورٍ تختزنها الذاكرة،وبعد فترة أنفجرت لينا بالبكاء وتبعتها ريم،نظرا إلى ما حولهما وإلى بيتهم،وجدتا المجزرة قد أنتهت بعد أن وضع الإحتلال بصماته البغيضة على يافا تاركاً أياها في صمتٍ وذبولٍ مقيتين،وكومة ً من الحجارة والجثث المترامية هنا وهناك. خرجتا من يافا، هامتا بوجهيهما في هذا العالم،على طريق رمال الصحراء،الرمال الملأة بالحقب،وبالصدفة- لسوء حظهما - وجدا في الطريق رجلاً بانت على وجهه علامات الغضب،رجلاً ضخماً.ومن هنا بدأت براعم القصة بالنمو قال لهما بصوتٍ متجهم:أين والديكما؟ردت لينا "لقد ماتا "قالتها بصعوبةٍ جسيمة،قال عبد الرحيم –الرجل صاحب دار الأيتام الذي أمتهن النسيان – بأزدراء:لربما تنفعان للعمل في الملجأ! لم يكن يعلمن ما تخبىء الأنفس من نوايا ، لأنه ليس لديهن خبرة ٌ في هذه الحياة،ربما أوصلتهما الخطى أو قذفهم القدر إليه، تاركاً إياهم تحت رحمة هذا المتسلط الذي لا يعرف الرحمة. صحب الرجل الطفلتان ليضعهما في دار الأيتام أو بالأحرىملجأ الأيتام،لم يكن بالملجأ الكبير،بل هو بالأصل بيت لرجل أعزب يقطن وحده،فانتقل منه ،وتبرع به الى ملجأ الأيتام،يتكون من أربعة غرف ،غرفة عبد الرحيم،غرفة نوم الأطفال والمطبخ والحمام،ويحلقه سور متهالك،أثر عواصف الاقتلاع.
في ذلك الملجأ،كان هناك طفلة تدعى لبنى،بعمر لينا تعمل في الملجأ،عليها أمور تدبير المنزل والطبخ،أما باقي الأطفال فكانوا يخرجون من الملجأ كل صباح ليذهب كلُ منهم إلى عمله،والويل الويل لمن لا يجلب معه المال ، فأنه لا يحصل على العشاء الذي ما هو إلا القليل من الحساء وقطعة خبزٍ صغيرة- ويضرب بالصوت وينام لوحده في السقيفة. وضع عبد الرحيم ريم لتعمل على بيع الزهور،ولينا وضعها لتساعد لبنا،وجدت لينا في لبنا توأم روحها،نعم فقد جمعت بينهما خيوط الشمس في مسارٍ واحد وتفكيرٍ موحد. مرت الأيام وحلّ الخريف،وفي يومٍ من أيامه التى عمها الذهول خرجت لينا لتنشر الملابس المغسولة،رأت الأطفال ذاهبين إلى المدرسة،مثقلين بالفرح نظرت لينا إليهم،فاسترجعت ذاكرتها الذكريات الجميلة لمدرستها ومعلمتها إيمان،وأناشيد الطفولة التى ما زالت تحفظها عن ظهر قلب،ومضت عيناها بوميضٍ لامع،لكن نسيج ذكرياتها أنقطع على صوت عبد الرحيم قائلاٍ:يا فتاة ! إنتبهي إلى عملك! وتابع قائلاًً لا تسبحي في خيالك الساذج وإلا تعرضت للعقاب الوخيم ،فلست فاحش الثراء حتى آخذك وباقي الأطفال الى المدرسة. وأنهى كلامه بضحكةٍ ساخرة. وبعد أنتهاء الأطفال من تناول الغداء كانت على لينا ولبنا مهمة غسل الأطباق،فقامت كلاهما في هذا الوقت بسرد حكايتها للأخرى ، وجاء دور لبنى،تحدثت لبنى عن قصة حياتها وأسترسلت في الحديث،فسقط الطبق منها سهواً،فحرمها عبد الرحيم من العشاء وضربها بالسوط،لتكون عبرةً لمن يعتبر،ولينا التي ترقرقت الدموع في مقلة عينها،لم تستطع البكاء خوفاً من أن يحل بها ما حل بلبنى. نامت لبنى تلك الليلة في السقيفة التي تملأها الفئران ، تلك الغرفة الرطبة الباردة .ومرت الأيام على هذا النمط الذي هو تشكيلٌ للموت البطيء.على مشارف فصل الشتاء،حصلت لينا على عملٍ- لمدة يومين-خارج الملجىء في قريةٍ قريبه،وعندما عادت لينا إلى الملجأ، يملأها الشوق لرؤية أختها الصغيرة ريم . وعندما رأت لبنى لينا قادمة هبت مسرعة إلى الباب، لتسر لها الخبر المكتنز بالحزن قالت لبنى لاهثة"ريم ...أصابتها حمى شديدَ وهي تردد اسمك". تركت لبنى كل شيء كان بيدها،وأسرعت كالشهاب إلى أختها ريم وضمتها إلى صدرها، أما ريم فقد أشتدت عليها الحمى إلى حد الهلاك "إلى اللقاء يا أختاه ! قالت ريم مع آخر نفسٍ لها وشهقت شهقة الموت،كان كل من ينظر إلى ريم في تلك اللحظة يراها طفلاً بكل معنى الكلمة،أرتسمت على وجهها علامة البراءة،وخصلاً من شعرها الذهبي ينهدل على كتفيها النحيلتين، وجسدها النحيل المترنح على كتفي لينا،كانت هذه هي آخر صورةٍ لريم أرتسمت في ذاكرة لينا،لقد ماتت ريم بسبب الحمى ولم يحضر عبد الرحيم الطبيب أو الدواء بحجة عدم وجود المال ، لكنه اكتفا بالنظر الى هذه المأساة كأنه يتابع فلما سينمائيا ومغمورا بنشوة عارمه بالفرح لأنه سيتخلص من عبء ـ او الذي يعتبره عبئا ـ من أعبائه 0
في الصباح دفنت ريم ونسجت مراسيم دفنها من البكاء والعويل ، في تلك اللحظه توقف الزمان متسمرا في مكانه كالأثاث ، توقفت عجلته عن الدوران ، في الليل تسلقت لينا شجرة الصنوبر التي عمها ذبول الخريف المقيت ، وجلست متكئة على أغصانها المتراخيه ، استرجعت ذكريات استولت عليها ، ريم أصبحت حلم الربيع ريم التي هي ضحكه فوق الشفاه ، قد ماتت ،وخيوط الشمس غزلت لها طريقا إلى جنة الخلود . في ذلك الوقت العصيب ولدت ذاكراتها صورا لذكريات باتت من الماضي السحيق ، ذكريات لوقت قد مضى ، لعالم آخر غير هذا العالم ، لعالم من نسج الربيع ، ذكريات لأمها وأبيها وريم وديانا وبساط الربيع الأخضر وبيتهم في يافا . ثم نظرت إلى السماء وقالت : "أنا على يقين أنكم هناك يا والدي وياصغيرتي ريم مع قباطنة الخلود ، وربابنة الحياة والربيع ، تراقوبنني وتبكون على حالي ، تراقبون أيائل الشتاء في عرس المطر ، تراقبون الفصول الأربعه وهي تنسج حكاياتها على وقع أغنية الحياة " .
في تلك الليلة حزمت لينا أمتعتها التي ما هي إلا ثوب وقلادة فيها صورة أمها وشريطة حمراء ، كانت ريم تربط بها شعرها ، وهمت إلى العالم الكبير ، لتخرج من الملجأ ، لتنسج حكايات أخرى خارج السور المتهالك ، لتحل لغز البقاء ، ميقنة أن لن يكون هناك ربيعا بهيا أخر بعد أخر ربيع لها في يافا ، ضاقت الجدران عليها ، لكن الزمان لم يتوقف عند هذا الحد ، ما زال الخير والشر يتصارعان لنيل جائزة الحياة ، وهي بينهما في منتصف الحلبه ، لكن الربيع سيولد من جديد بعد أن ينتهي ذبول الخريف مهما طال ، همت لينا في هذه الدنيا لترى دورها فيها ، لترى أي سن ستحرك في عجلة الزمان ، حتى لو قدر لها السير في الطريق الضيق ، وحياة مليئه بالحزن ، حتى لوتقاذفتها الأقدار لتضعها في دائرة أن تكون أو لا تكون ، لو قدر لها أن تسير حافية القدمين على الجليد المتهشم ،ٍ أو على رمال الصحراء المشتعله ، لقد قدر لحياتها أن تكون مقبرة للآمال . هذه الحكاية ليست إلا من نسج الخيال ، ولينا ليست إلا جسما تجسدت فيه آلام طفلة وضع الاحتلال والفقر المدقع بصماته عليها وجعل من نفسه عقبه في مسيرة حياتها .
انتهت القصة وبدأت أبحث عن جسد للينا جديدة ، أجسد فيه آلام أخرى .
لمى محمود فراحنه | |
|
للأسف أنا من هناك مديرين المنتدى
عدد المساهمات : 6 تاريخ التسجيل : 14/03/2009 العمر : 30
| |